الورقة الأخيرة........


Qana.news
2021-02-07


ليلى كردي*

نهض من فراشه بنشاطٍ كان قد افتقده لأسبوعٍ كاملٍ، فصراعه مع المرض سرق منه قواه وأرغمه على خوض جولاته في حلبةِ سريره المستطيلة، الغارقة بدموع عينيه وماء جسده السائح بعد كلّ نوبة من نوبات الحمًّى.
الأسبوع الأوّل كان الأقسى عليه منذ ولادته، كان أصعب من امتحانات قبوله في كليّة الهندسة، وأتعس من سفره بحثًا عن فرصةِ عملٍ لم يجدها في وطنه، أمَّا ابتعاده القسريّ عن أهله اليوم فهو أكثر إيلامًا من السنوات التي أمضاها وحيدًا في الغربة.
حمل هاتفه واتّصل بأمّه التي سرعان ما أجابت بصوتٍ مرتعشٍ: "حبيبي نبيل، هل أصابك مكروه يا ماما؟"، فأجابها: "يا روحي، لا داعي للهلع، أهاتفك لأطمئنك أنّني اليوم بحالٍ أفضل"، تنهّدت مخرجةً الطاقة السلبيّة التي شحنتها آلام ابنها في صدرها منذ وصوله إلى لبنان للاحتفال مع أهله بقدوم السّنة الجديدة، لتؤكّد الفحوصات المخبريّة إصابته بفايروس كورونا، فتضطرّ عائلته للانتقال إلى "بيت الضّيعة"، وترك منزلها في بيروت ليمضي فيه فترة حجره القاسية.
أنهى اتصّاله مع أمّه التي أوصته بفتح نوافذ البيت ليتيح للشمس نثر سحرها في أرجائه، ثمّ راح يتجوّل في المكان الأحبّ إلى قلبه، بعد سبعة أيّامٍ مليئة بالمعاناة، فوقعت عيناه على روزنامةٍ معلّقةٍ على الجدار عليها سبع وريقات، راح يزيل الواحدة تلو الأخرى ليكتشف أنّه على موعدٍ مع آخر يومٍ من سنة ٢٠٢٠.
رتّب الأوراق السبع أمامه كقطارٍ يستعدّ للرّحيل، وتذكّر مفكرة يوميّاته التي كان قد سجّل عليها مخطّطاته وأحلامه للسنّة التي ستصبح منصرمةً بعد ساعات، أحضرها وقرأ ما قد دوّنه، ليجد أنّ معظم أحلامه ما زالت حبرًا على ورق.
حمل الورقة الأولى وطواها على شكل صاروخٍ صغير، وضع عليه بعض أحلامه ورماه نحو هدفٍ محدّدٍ بعيد، داخل سلّة المهملات.
أخذ الورقة الثانية وحوّلها إلى سفينةٍ، وضع على متنها حفنةً من أحلامه، وحملها إلى حوض الاستحمام وتركها تتبلل وتذوب في المياه.
ثمَّ حمل قلم الرصاص، رفيق مفكرته، وأخذ الورقة الثّالثة. أراد أن يفرغ عليها غضبه، أن يسجّل موقفه، لكنّ الرصاصة انكسرت فلم يتكبّد عناء التفتيش عن قلمٍ آخر، وتركها بيضاء فارغة إلا من بعض أحلامه الضائعة.
لم يعد أمام نبيل سوى أربع وريقاتٍ صغيرات، فكّر كثيرًا، بحث وفتّش كثيرًا، فوجد شريطًا لاصقًا في درج والده، أسرع إلى الأوراق وصفّ كل اثنتين قرب بعضهما، ثمّ جمعها على شكل مستطيل وألصق الأجزاء بإحكام. جلس يتأمّل شكله الهندسيّ بهدوء فوجده من أعظم إنجازاته على الإطلاق، نثر عليه ما تبقّى من أحلامه، سجّل عليه مطالبه بدموع عينيه، ورتّل عليه أمنياته المستقبليّة، وأوّلها أن يبقى في حضن وطنه.
ثمَّ أخد بأطرافه ووضعه على فمه مغطّيًا أنفه، وتوجّه إلى المرآة، متأمّلًا نفسه، مردّدًا بفرحة المتهيّء للانتصار: "أرتدي كمَّامتي اليوم لأحقّق أحلامي في المستقبل".
بقلم:ليلى كردي
تحية الفنانة زينب أيوب (بالحبر الجاف) للطواقم الطبية في هذه المرحلة الصعبة.


الاراء الموجودة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع وادارته، بل عن وجهة نظر الكاتب او المصدر المستقاة منه.

الورقة الأخيرة........