مسار الحياة… النظرة إلى الله في سلسلة حلقات
Qana.news
2021-02-02
كثيراً ما يتساءل المرء عن حيثيات هذا الكون الرحب،وعن سبب وجودنا في هذه الحياة. يخطر في باله الكثير من الأفكار والتساؤلات التي قد يصعب عليه إيجاد أجوبة وافية لها. ينظر من حوله، باحثاً عن الإختلافات بين بني البشر مراقباً تصرفاتهم وأخلاقياتهم وعباداتهم. نعم، نحن نختلف عن بعضنا، نختلف دينياً وعقائدياً، سياسياًواجتماعياً وعرقياً، ولكننا مهما اختلفنا، نبقى جميعنا ومن جميع أصقاع الأرض، متوحدين تحت لواء "الإنسان".
ومن هنا،ندخل للكلام عن مقوّمات الحياة الأساسية التي يحتاجها أي إنسان بغض النظر لأي بيئة أو دين انتمى. تقوم أساسيات هذه المقومات على: العدالة، الحرية، المساواة، الشفافية، والرحمة. والجدير بالذكر، أن هذه المقومات ترتبط ببعضها البعض، وإذا غاب أي عنصر من هذه العناصر أحدث شرخاً كبيراً ما يسبب خللاً في النظام "الحياتي والإنساني ككل"، الأمر الذي يؤدي إلى اللاستقرار والخوف من المستقبل. فنحن عندما نتكلم عن العدالة، فإننا نتكلم عن العدالة الاجتماعية والقانونية والسياسية،كما أنها تقتضي نشر الثقافة والأفكار في المجتمعات الأخرى من دون التعرض لثقافاتهم وأفكارهم. ومن هنا، فإنها (أي العدالة) ترتبط بالحرية -حرية الثقافة والمعتقد والتفكير والعمل والتنقل وإبداء الرأي والتعبيرعمّا يحمله من طروحات دون أن يتعرض له أحد ممن يخالفونه شرط أن لا تتسبب هذه الحرية بأي أذى للآخرين حتى لا تُفتح مصاريع الاستبعاد والإكراه والقمع.
ومن خلال هذه الحرية، وحتى تكتمل آفاقها، لا بدّ من المساواة بين جميع أفراد هذا العالم الواسع حيث أن الجميع متساوٍ في الكرامة والإنسانية والتشريعات الاجتماعية والاقتصادية التي ينص عليها العقل والمنطق، ثم دعت الى ذلك دساتير العالم.
وللوصول إلى هذه المساواة، يجب أن ننظر إلى بعضنا البعض نظرة احترام ومحبة بغض النظر عن الفوارق الطبقية والدينية والعنصرية، فالكرامة على سبيل المثال هي نفسها سواء كان الفرد غنياً أو فقيراً، أبيضاً أو أسوداً، يلتزم ديناً معيناً أو لا يلتزم، وسواء أكان انساناً طبيعياً أو معوقاً.
وعندما نتكلم عن المساواة، نكون قد فتحنا باب "الشفافية"من حيث لا ندري، حيث أنه من حق المجتمع بأكمله أن يتلقى المعلومات كاملة من غير أي نقصان وبشكل متساوٍ دون أي تمييز بين فئة وأخرى، خاصة إذا كانت تتناول الشأن العام حتى يتمكن الجميع من تكوين علاقاتهم بطريقة سوية لا تشوبها شائبة. عندما تتأمن هذه العناصر، نصل إلى الهدف الأسمى والذي يتجلى "بالرحمة"التي غرسها الله في وجدان الناس بالفطرة، إلا أن هذه السمة تتفاوت بين شخص وآخر وذلك حسب الجهود الشخصية التي يقوم بها كل فرد والتي قد تسهم في توسيع أُطر الرحمة في قلبه أو تعميتها وإدخالها في نفق مظلم؛ وبالتالي يصير إنساناً عديم الشفقة والرحمة.
من هنا، وإذا أمعنا النظر في هذه النقاط جمعاء، نجد أنفسنا باحثين عن حقيقة كبرى تتركز حول مسار الحياة. جميع خلق الله ومنذ بدء البشرية خرجوا للوجود بطريقة واحدة وبتركيبة جسدية واحدة وعبر خالق واحد وإن اختلفت معتقدات البشرية حول أصل وحقيقة هذا اله. هذا النظر في الحقيقة {اللغز} كافٍ حتى يتمكن الإنسان الذي ينطلق بتفكيره من عقلية واعية من الاستغراق في التفكير في أصول الحياة وكيفية الوصول بها الى مسار مرضٍ يرضي ضميره ويرضي الله حتى ولو انتمى لأي معتقد ديني؛ لا فرق طالما أن بحثه يتركز حول حقيقة إنسانية إلهية.
فلو وُجد أكثر من إله أو خالق، لتناقضت الإرادات والقوانين وساد الصراع على إدارة الكون الأمر الذي يؤدي الى فناء القيم والمبادئ ولربما الحياة الكونية ككل. لذلك فإن الله تعالى أراد أن يوضح فكرة التوحيد الإلهي فبعث للبشرية أنبياءه في فترات زمنية متفاوتة للتأكيد على وحدوية الإله وتأصيل المفاهيم والقيم النبيلة والرحمة والمحبة التي يحب الله أن تنتشر بين عباده.
فكيف لا تكون هذه هي صفات الخالق، إذا كان الناس يحملون في قلوبهم الرحمة والشفافية، فأين رحمتنا وعدالتنا نحن البشر من رحمة هذا الخالق العادل؟! فرحمته وعدالته لا تشمل فئة إنسانية دون أخرى ولا صاحب دين دون آخر، بل أنها تشمل جميع البشرية باختلاف معتقداتهم بهذا الإله، فهو لا يُفرق بين مسلم ومسيحي ويهودي وبوذي طالما أنهم خيّرون في أفعالهم ويتبعون طريق الإصلاح والعدالة. كيف لهذا الإله العادل أن يحاسب الناس حسب أديانهم وهو الذي خلقهم في بيئة تحمل هذه الديانة أو تلك، فالإنسان عندما يولد يكون إدراكه صفراً لا يعي شيئاً عن الأديان والمذاهب والمعتقدات، الا عندما يغرز أبواه المعتقدات الدينية حسب ما وصلت إليهما هذه المعتقدات.
فكل مجتمع ديني يعتبر أنه هو الذي يتّبع الدين الصحيح وبالتالي يصعب تغيير معتقداته. هل يمكن لهذا الإله العادل أن يدخل مسلماً الجنة لمجرد أنه نطق بالشهادتين ولم يتبع طريق الحق والعدالة، ويدخل غير المسلم النار ويعاقبه مع أنه أمضى حياته في طريق الخير والإصلاح؟! طبعاً فإن العدالة الإلهية لا تحكم بذلك! فالله ليس حاكماً كباقي حكام البشر، لا يحتاج الى مدح أو إطراء لتعزيز ملكه، بل أن البشر هم من يحتاجون رحمته في الدنيا والآخرة، ولا يأتي منه الا ما فيه خير الإنسان وسعادته. ومن هنا، لا يحق لأحد أن يقول أن الله قد خلق الناس ليعذبهم ويشقيهم، لأن هدف الله هو راحة الإنسان وخلقنا لنكون جميعاً في الجنة، لكننا نحن من نأتي لأنفسنا بهذه المشاق، لأننا لم نقم بالبحث عن الطريق السليم الذي يجنبنا الكثير من المتاعب نتيجة الغرور الإنساني الذي يضع أحكامه في مقابل الأحكام الإلهية. ولكن مهما كانت حدّية غرور الإنسان، إلا أنه لا بد من أن يفكر ويتساءل قليلاً حتى لو لم يُخرج هذه التساؤلات الى العلن، وذلك بغية الوصول الى الحقيقة الحياتية، حتى يصل الى مرحلة الاطمئنان الداخلي والاستقرار النفسي.
وبما أننا، وفيما سلف من كلام، كنا نتكلم عن التوحيد الإلهي على اختلاف الأديان، فإن ذلك يعني التسليم لله والإلتزام بأوامره وممارسة كل ما رسمه لنا الله من نظام للحياة ، وهذا ما تعنيه كلمة "الإسلام"، أي التسليم لإله واحد. وهكذا، فإن المقصود بالإسلام لا يعني فقط من اتبع الدين الإسلامي فحسب، بل أن كل إنسان أسلم لله الواحد منذ بدء البشرية. ومن خلال هذا التسليم، يشعر الإنسان بالحاجة الى قوة مطلقة تؤمن له ما يبتغيه وتشعره بالسعادة وتزيل عنه الضغط النفسي الذي يؤثر عليه سلباً، وهذه القوة تتمثل بقوة الله الذي يحرص الإنسان على نيل رضاه من خلال العبادات المتنوعة التي يقوم بها بإخلاص.
صحيح أن الله تعالى قد فرض علينا عبادته، الا أنه ليس بحاجة لهذه العبادات التي نقوم بها لغاية في نفسه، بل فرضها علينا من أجلنا نحن، لأنها تروض النفس الأمارة بالسوء، وتبعدها عن الأنانية والحقد والنفاق والإجرام، وتساعد على النهي عن الفحشاء والمنكر وكل ما يسبب الفساد في المجتمع.
ومن هنا، فإننا عندما نقوم بكل هذه العبادات والسلوكيات، ونربطها بالواقع الانساني والاجتماعي، نجد أن الله لم يأتِ بنا الى هذه الدنيا ليختبرنا، بل حتى نختار أي درجة في الجنة نريد. فباب الجنة مفتوح لنا جميعاً،دون تمييز بين دين وآخر فكلنا مسلمون لله، غير أن ما يحدد درجتنا في الجنة هي أفعالنا وسلوكياتنا.
من هنا، يقترن العمل الصالح بالإيمان، فكلما ازداد إيمان الإنسان كلما زاد العمل الصالح لديه، وهذا العمل لا يقتصر على الحياة، بل يتعداه الى ما بعد الممات فيما يتركه الإنسان من آثار خيّرة قام بها قد تكون من خلال صدقة جارية، أو علم بقي مفعوله لسنين طويلة بعد موته...فيكون له بذلك أجر مضاعف.
لكننا وفي هذه الأيام، نعاني من أزمة أخلاقية سببها الرئيسي هو عدم ربط الأخلاق بالإيمان، أو عدم التفكير بالمراتب التي أوجدها الله لعباده في الجنة، فصار إنساناً مادياً غاب عنه عنصر الأخلاق وغلبت عليه المصلحة الذاتية. فصلاح النفس توجب على الإنسان السيطرة على الشهوات ومجاهدة النفس، وهذا ما يندر وجوده هذه الأيام بحجة (الحرية الشخصية التي يتمتع بها كل فرد). غير أن حرية النفس ليست تلك الحرية التي تقود الى الانحراف بحجة حرية التصرف، فإن ذلك من حيث ندري أو لا ندري، يكون سبباً لتقييد النفس وزجّها خلف قضبان الشهوات، وإغراءات المجتمع الذي تكثر فيه المفاسد، فلا يكتشف الإنسان أنه أوقع نفسه في خبايا زمن خؤون الا بعد فوات الأوان وتدمير الذات حيث يصير من الصعب إصلاح ما قد فسد الا بعد صراع ومعاناة يتطلب الصبر والإرادة والتوبة النصوح. ولذلك فإن عظمة النفس الإنسانية، تكمن في قوتها في عدم الخضوع لشهوات الدنيا. ويبرز ذلك من خلال التحرر من البخل والطمع، فيعطي دون تفكير خاصة إذا كان من يساعدهم من ذوي الحاجات إلى مسكن أو دواء أو طعام،... أو حتى إذا كانوا من ذوي الحاجات الخاصة وهذا ما يساعد على تعميم فكرة العدل الإجتماعي.
ومن خلال هذه النفس الإنسانية، يتوجب على الإنسان أن يمارس إنسانيته من خلال قدرته على التمييز بين الحق والباطل، العدل والظلم، الإيجاب من السلب في كل جوانب الحياة، فينحاز مباشرة إلى المعاني الايجابية دون تردد فيبقى ثابتاً على ما يحمل من مبادئ حميدة.
صحيح أن أهم ما في الحياة بالنسبة للإنسان هي "الأنا"، إلا أن هذه النوعية من الناس التي لا تستطيع الا أن تكون خيّرة، لا تعرف التقوقع ولا تعرف الأنانية، بل تعتبر أن لا قيمة للحياة إلا إذا تعايشت مع "الأنا الأخرى"، بغض النظرعن دين أو عرق أو الطبقة الإجتماعية ل"لأنا الأخرى".
وبهذا فإن الله لا يميز بين خلقه ولا يوجد في قاموسه كلمة "هم"، فالجميع ودون استثناء يشكلون نسيجاً كونياً إنسانياً واحداً بعيداً عن التعالي والتكبر. لا يعيشون في فكرة "نحن، وهم" بل يعيشون فكرة "أنا وأنا الآخر" كي يبقى العالم متعاضداً.
ولكي نصل الى هذه المرتبة من القيم والفضائل، لا بد من يقظة ضمير تحاسب النفس على أخطائها، تلومها عن تكبرها وغرورها وتعاليها، تجعل النفس تسمو وترتقي للإعتذار من الآخر. هذا الضمير اليقظ، يترك للنفس أن تتساءل عمّا قامت به من قبل من أفعال ومعتقدات لطالما اعتبرها الفرد أفعالاً ومعتقدات صحيحة ليكتشف لاحقاً أنه كان على خطأ فادح. عندها يصل الى مرحلة الندم والتوبة إلى ربه على ما قام به ليعود بذلك الى الأسس السليمة في التعاطي مع الناس...ومع الله.
بقلم: الكاتبة رانيا يونس
الاراء الموجودة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع وادارته، بل عن وجهة نظر الكاتب او المصدر المستقاة منه.